لم يكن الشعر العربي الحديث كله شعر يأس وغربة وضياع وقلق وسأم، فهناك أشعار تغنت بالأمل والحياة واليقظة والتجدد والانبعاث او مايسمى عند ريتا عوض بقصيدة الموت والانبعاث التي نجدها حاضرة في أشعار بدر شاكر السياب وخليل حاوي وأدونيس وعبد الوهاب البياتي. وسبب هذا الأمل والتجدد في أشعار هؤلاء التموزيين الذين تغنوا بالموت والانبعاث هو ماتم إنجازه واقعيا وسياسيا كثورة مصر و تأميم القناة ورد العدوان الثلاثي واستقلال أقطار العالم العربي والوحدة بين مصر وسوريا إلى غير ذلك من الأحداث الإيجابية التي دفعت الشعراء إلى التغني بالانبعاث واليقظة والتجدد الحضاري. ولم تستقل حقبة الأمل بفترة معينة، بل نراها تتداخل مع فترة إيقاع الغربة والضياع تعاقبا أو تقاطعا.
وقد نجد فكرة التجدد عند الشعراء المهجريين كأقصوصة ” رماد الأجيال” و”النار الخالدة” عند جبران خايل جبران، وقصيدة” أوراق الخريف” لميخائيل نعيمة، ” غيرأن هذه اللمحات الأدبية والشعرية ، التي تراءت في إنتاج أدباء المهجر الشمالي ، لاتؤلف في واقع الأمر تجربة متماسكة، تضع الإيمان بالتجدد والعبث فوق كل اعتبار،فباستثناء قصيدة ” الحائك” لنعيمة، تبقى الحيرة والتردد، وإيثار الحياة الحالمة، هي طابع هذه التجربة العامة”.22 ويعني هذا أن التجدد عند شعراء المهجر مقترن بالتناسخ، بينما التجدد عند الشعراء المحدثين مرتبط بالفداء المسيحي.
وقد استفاد الشاعر الحديث من مجموعة من الأساطير والرموز الدالة على البعث والنهضة واليقظة والتجدد، واستلهمها من الوثنية البابلية واليونانية والفينيقية والعربية، ومن المعتقدات المسيحية ومن التراث العربي والإسلامي ومن الفكر الإنساني عامة. وتجسد هذه الأساطير غالبا صراع الخير والشر، ومن بين هذه الأساطير الموظفة نجد: تموز وعشتار وأورفيوس وطائر الفينيق وصقر قريش والخضر ونادر السود ومهيار والعنقاء والسندباد وعمر الخيام وحبيبته عائشة والحلاج ولعازر والناصري.
ولقد أفرزت هذه الأساطير الرمزية التي وظفها الشاعر المعاصر منهجا نقديا وأدبيا وفلسفيا يسمى بالمنهج الأسطوري” يقدم به الشاعر مشاعره وأفكاره، ومجمل تجربته في صور رمزية، يتم بواسطتها التواصل، لا عن طريق مخاطبة الفكر، كما تفعل الفلسفة والمنطق، بل عن طريق التغلغل إلى اللاشعور، حيث تكمن رواسب المعتقدات والأفكار المشتركة”.23
ويعد أدونيس من أهم شعراء التجربة التموزية الذين تغنوا بالموت والانبعاث كما في ديوانيه” كتاب التحولات والهجرة في أقاليم النهار والليل”، وديوان” المسرح والمرايا”. ومن أهم خصائص شعره التي تحدد نظرته إلى أمته على المستوى الحضاري خاصة التحول عبر الحياة والموت، أي إن أدونيس يشخص في أشعاره جدلية الإنسان المتأرجحة بين الحياة والموت، كما في قصائده الشعرية ” الرأس والنهر”، و” تيمور ومهيار”، وقصيدة “السماء”، وقد اشتغل أدونيس في شعره كثيرا على أسطورة العنقاء وشخصية مهيار .
أما إذا انتقلنا إلى الشاعر خليل حاوي فقد عبر في دواوينه الثلاثة ” نهر الرماد” و”الناي والريح ” و” بيادر الجوع” عن مبدإ آخر غير مبدإ التحول عند أدونيس هو مبدأ المعاناة، أي معاناة حقيقية للخراب والدمار، والجفاف والعقم. وقد شغّل في شعره أسطورة تموز وأسطورة العنقاء للدلالة على هذا الخراب الحضاري والتجدد مع العنقاء.
ومن القصائد الدالة على معاناة الحياة والموت قصيدته” بعد الجليد “وقصيدة” السندباد في رحلته الثامنة”، و”حب وجلجلة”، و”البحار والدرويش”، و” ليالي بيروت”، و” نعش السكارى”، و”جحيم بارد”، و” بلا عنوان”، و”الجروح السود”، و” في جوف الحوت” ، و”المجوس في أورپا” و”عودة إلى سدوم”، و”الجسر”، و”عند البصارة” ، و” وجوه السندباد”، ومسرحية”عرس الدم” للوركا، و” سيرة الديك الجن”، و”الكهف”، و”جنية الشاطئ”، و” لعازر عام 1962 م”.
ومن جهة أخرى، فقد تناول بدر شاكر السياب في الكثير من قصائده معاني الموت والبعث، وعبر عن طبيعة الفداء في الموت، إذ يعتقد بأن الخلاص لايكون إلا بالموت، إلا بمزيد من الأموات والضحايا كما في قصيدته ” النهر والموت” ،وفي قصيدته ” قافلة الضياع “، و” رسالة من مقبرة”. وقد استخدم السياب رمزا أسطوريا للتعبير عن فكرة الخلاص وهو رمز المسيح كما في قصيدته” المسيح بعد الصلب”، وقصيدة ” مدينة السندباد” و”أنشودة المطر”.
وتتسم أشعار عبد الوهاب البياتي بجدلية الأمل واليأس كما يظهر ذلك جليا في ديوانه” الذي يأتي ولايأتي”. ويلاحظ الدارس أن هناك ثلاث منحنيات في جدلية الأمل واليأس في أشعار عبد الوهاب البياتي:
” في المنحنى الأول، انتصار ساحق للحياة على الموت، وتمثله الأعمال الشعرية السابقة على” الذي يأتي ولايأتي”، ولاسيما ” كلمات لاتموت”، و” النار والكلمات” و” سفر الفقر والثورة”.
في المنحنى الثاني تتكافأ الكفتان، ويمثله ديوان” الذي يأتي ولايأتي”.
أما المنحنى الأخير، فيتم فيه انتصار الموت على الحياة، ويمثله ديوان” الموت في الحياة”"24
هذا، و قد جسد عبد الوهاب البياتي في دواوينه الشعرية حقيقة البعث من خلال الخطوط الأربعة الهامة لمضمون ديوانه” الذي يأتي ولايأتي” كخط الحياة وخط الموت، وخط السؤال، وخط الرجاء، وكل هذا يرد في جدلية منحنى الأمل ومنحنى الشك.
وبعد، لقد أصبح الشاعر الحديث شاعرا يجمع بين هموم الذات وهموم الجماعة ، يروم كشف الواقع واستشراف المستقبل متنقلا من التفسير إلى التغيير. وبمعنى آخر،” لقد أصبح وعي الشاعر بالذات وبالزمن وبالكون مرتبطا بوعيه بالجماعة، ومتضمنا له. وماكان لشيء من ذلك أن يحدث لولا وعي الشاعر الحديث، وإدراكه للتحدي الذي يهدد حاضره ومستقبله، بالقدر الذي يهدد وجوده القومي. الأمر الذي جعل موقف الشاعر من الذات، ومن الكون، ومن الزمن ومن الجماعة، موقفا موحدا، تمليه رغبته في الحياة والتجدد والانتصار على كل التحديات، التي يرمز إليها برمز واحد، ذي طابع شمولي، هو رمز الموت الذي يعني موت الذات وموت الزمن( الماضي بكل أمجاده والحاضر بكل تطلعاته) ، والذي يعني تبعا لذلك محو الوجد القومي والإنساني للأمة العربية.
إن الصراع بين الموت والحياة في تجربة الشاعر الحديث يعني في آخر الأمر الصراع بين الحرية والحب والتجدد الذي يجعل الثورة وسيلته، وبين الحقد والاستعباد والنفي من المكان ومن التاريخ.”25
وعلى الرغم من مضامين الشعر الحديث الثورية، فإنه لم يتحول إلى طاقة تغييرية، بل نلاحظ انفصالا بين الشعر الحديث والجماهير العربية، والسبب في ذلك يعود حسب أحمد المعداوي إلى عامل ديني قومي، وعامل ثقافي، وعامل سياسي، ولكن أهم هذه العوامل حسب الكاتب تعود إلى العامل” المتعلق بتقنية هذا الشعر، أي بالوسائل الفنية المستحدثة التي توسل بها الشعراء، للتعبير عن التجارب التي سبقت الحديث عنها. فلا شك في أن حداثة هذه الوسائل حالت بين الجماهير، وبين تمثل المضامين الثورية لهذا الشعر.”26